فصل: قال ابن عادل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.لطيفة حول الالتفات في الصلاة:

قال الحرالي: ومن التفت بقلبه في صلاته إلى غير ربه لم تنفعه وجهة وجه بدنه إلى الكعبة، لأن ذلك حكم حق حقيقته توجه القلب ومن التفت بقلبه إلى شيء من الخلق في صلاته فهو مثل الذي استدبر بوجهه عن شطر قبلته، فكما يتداعى الإجزاء الفقهي باستدبار الكعبة حسًا فكذلك يتداعى القبول باستدبار وجه القلب عن الرب غيبًا، فلذلك أقبل هذا الخطاب على الذين آمنوا والذين أسلموا، لأنه هو صلى الله عليه وسلم مبرأ عن مثله. انتهى.

.معنى قوله تعالى: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشونى}:

أما قوله تعالى: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشونى} فالمعنى لا تخشوا من تقدم ذكره ممن يتعنت ويجادل ويحاج، ولا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم فإنهم لا يضررنكم واخشوني، يعني احذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم وفرضت عليكم، وهذه الآية يدل على أن الواجب على المرء في كل أفعاله وتروكه أن ينصب بين عينيه: خشية عقاب الله، وأن يعلم أنه ليس في يد الخلق شيء ألبتة، وأن لا يكون مشتغل القلب بهم، ولا ملتفت الخاطر إليهم. اهـ.

.قال السعدي:

وكان صرف المسلمين إلى الكعبة، مما حصلت فيه فتنة كبيرة، أشاعها أهل الكتاب، والمنافقون، والمشركون، وأكثروا فيها من الكلام والشبه، فلهذا بسطها الله تعالى، وبينها أكمل بيان، وأكدها بأنواع من التأكيدات، التي تضمنتها هذه الآيات.
منها: الأمر بها، ثلاث مرات، مع كفاية المرة الواحدة، ومنها: أن المعهود، أن الأمر، إما أن يكون للرسول، فتدخل فيه الأمة تبعا، أو للأمة عموما، وفي هذه الآية أمر فيها الرسول بالخصوص في قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} والأمة عموما في قوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ}.
ومنها: أنه رد فيه جميع الاحتجاجات الباطلة، التي أوردها أهل العناد وأبطلها شبهة شبهة، كما تقدم توضيحها، ومنها: أنه قطع الأطماع من اتباع الرسول قبلة أهل الكتاب، ومنها قوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} فمجرد إخبار الصادق العظيم كاف شاف، ولكن مع هذا قال: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}.
ومنها: أنه أخبر- وهو العالم بالخفيات- أن أهل الكتاب متقرر عندهم، صحة هذا الأمر، ولكنهم يكتمون هذه الشهادة مع العلم. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} مِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَمَعْنَاهُ: لَكِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ يَتَعَلَّقُونَ بِالشُّبْهَةِ وَيَضَعُونَ مَوْضِعَ الْحُجَّةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} مَعْنَاهُ: لَكِنْ اتِّبَاعُ الظَّنِّ، قَالَ النَّابِغَةُ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ مَعْنَاهُ: لَكِنْ بِسُيُوفِهِمْ فُلُولٌ، وَلَيْسَ بِعَيْبِ وَقِيلَ فِيهِ: إنَّهُ أَرَادَ بِالْحُجَّةِ الْمُحَاجَّةَ وَالْمُجَادَلَةَ، فَقَالَ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حِجَاجٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا فَإِنَّهُمْ يُحَاجُّونَكُمْ بِالْبَاطِلِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: {إلَّا} هَاهُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ وَإِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا.
وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْفَرَّاءُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا تَجِيءُ {إلَّا} بِمَعْنَى الْوَاوِ إلَّا إذَا تَقَدَّمَ اسْتِثْنَاءٌ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَا بِالْمَدِينَةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ ** دَارُ الْخَلِيفَةِ إلَّا دَارُ مَرْوَانَ

كَأَنَّهُ قَالَ: مَا بِالْمَدِينَةِ دَارٌ إلَّا دَارُ الْخَلِيفَةِ وَدَارُ مَرْوَانَ.
وَقَالَ قُطْرُبٌ: مَعْنَاهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا.
وَأَنْكَرَ هَذَا بَعْضُ النُّحَاةِ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآيتين:

قال رحمه الله:
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)}.
لابد أن نتأمل كم مرة أكد القرآن الكريم قضية تحويل القبلة.. أكدها ثلاث مرات متقاربة.. لأن تحويل القبلة أحدث هزة عنيفة في نفوس المؤمنين.. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يذهب هذا الأثر ويؤكد تحويل القبلة تأكيدا إيمانيا. لقد جاء بثلاث آيات التي هي أقل الجمع.. واحدة للمتجه إلي الكعبة وهو داخل المسجد.. والثانية للمتجه وهو خارج المسجد.. والثالثة للمتجه من الجهات جميعا.
قوله تعالى: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام}.. هو رد على المنافقين واليهود والنصارى الذين حاولوا التشكيك في الإسلام.. بأن واجهوا المسلمين بقضية تغيير القبلة.. على أساس أنها قضية ما كان يجب أن تتم لأنه ليس فيها زيادة في التكليف ولا مشقة زائدة تزيد ثواب المؤمن.. فالجهد الذي يبذله المؤمن في الاتجاه إلي المسجد الأقصى هو نفس الجهد الذي يبذله في الاتجاه إلي البيت الحرام.. فأنت إذا اتجهت في صلاتك يمينا أو شمالا أو شرقا أو غربا فإن ذلك لا يضيف إليك مشقة فما هو سبب التغيير؟.
نقول لهم إن هذه ليست حجة للتشكيك في تحويل القبلة لأن الاتجاه إلي المسجد الحرام هو طاعة الله.. ومادام الله سبحانه وتعالى قد قال فعلينا أن نطيع طاعة إيمانية.. يقول المولى جل جلاله: {وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون}.. أي أن ما فعلتموه من تحويل القبلة هو حق جاءكم من الله تبارك وتعالى.. والله عز وجل ليس غافلا عن عملكم بحيث تكونون قد اتجهتم إلي البيت الحرام. بل الله يعلم ما تبدون وما تكتمون.. فاطمئنوا أنكم على الحق وولوا وجوهكم تجاه المسجد الحرام.. واعلموا أن الله سبحانه محيط بكم في كل ما تعملون.
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}.
الحق تبارك وتعالى يؤكد لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوجه هو والمسلمون إلي المسجد الحرام.. سواء كانوا في المدينة أو في خارج المدينة أو في أي مكان على الأرض.. وتلك هي قبلتهم في كل صلاة بصرف النظر عن المكان الذين يصلون فيه.
وقوله تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة}.. الناس هنا المقصود بهم المنافقون واليهود والنصارى.. حجة في ماذا؟ لأن المسلمين كانوا يتجهون إلي بيت المقدس فاتجهوا إلي المسجد الحرام.. وليس لبيت المقدس قدسية في ذاته ولا للمسجد الحرام قدسية في ذاته كما قلنا.. ولكن نحن نطيع الأمر من الآمر الأعلى وهو الله.. إن الله تبارك وتعالى أطلق على المنافقين واليهود والنصارى كلمة ظلموا ووصفهم بأنهم الذين ظلموا.. فمن هو الظالم؟ الظالم هو من ينكر الحق أو يغير وجهته أو ينقل الحق إلي باطل والباطل إلي حق.. والظلم هو تجاوز الحد وكأنه سبحانه وصفهم بأنهم قد تجاوزوا الحق وأنكروه يقول سبحانه: {فلا تخشوهم} أي لا تخشوا الذين ظلموا: {واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون}.. أي أن الخشية لله وحده والمؤمن لا يخشى بشرا.. لأنه يعلم أن القوة لله جميعا.. ولذلك فإنه يقدم على كل عمل بقلب لا يهاب أحدا إلا الحق.
وقوله سبحانه: {ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون}.. تمام النعمة هو الإيمان وتمام النعمة هو تنفيذ مطلوبات الإيمان.. فإذا هدانا الله للإيمان فهذا من تمام نعمة علينا. ولكي يكون الإيمان صحيحا ومقبولا فلابد أن أؤدي مطالبه والمداومة على تنفيذ تكليفات الله لنا، فلا نجعل التكليف ينقطع. لأن التكليف نعمة بغيرها لا تصلح حياتنا ولا تتوالى نعم التكليف من الله سبحانه وتعالى إلا إذا أقبلنا على منهج بعشق.. وأنت حينما تأتي إلي المنهج قد يكون شاقا، ولكن إذا تذكرت ثواب كل طاعة فإنك ستخشع وتعشق التكليف.. لأنك تعرف العمل الصالح بثوابه والعمل في المعصية بعقابه.. ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)} سورة البقرة.
إذن الخاشعون هم الذين يقرنون الطاعة بالثواب والمعصية بالعقاب والعذاب، لأن الذي ينصرف عن الطاعة لمشقتها عزل الطاعة عن الثواب فأصبحت ثقيلة، والذي يذهب إلي المعصية عزل المعصية عن العقاب فأصبحت سهلة.. فمن تمام النعمة أن يديم الله علينا فعل مطلوبات الإيمان.. ولذلك في حجة الوداع نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} من الآية 3 سورة المائدة.
وكان ذلك إخبارا بتمام رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الأحكام التكليفية قد انتهت.. ولكن الذين يستثقلون التكليف تجدهم يقولون لك لقد عم الفساد والله لا يكلف نفسا إلا وسعها.. كأنه يحكم بأن هذا في وسعه وهذا ليس في وسعه وعلى ضوئه يأخذ التكليف.. نقول له أكلف الله أم لم يكلف، إن كان قد كلف فيكون التكليف في وسعك.. لأنه سبحانه حين يجد مشقة يأمر التخفيف مثل إباحة قصر الصلاة للمسافر وإباحة الإفطار في رمضان للمريض والمسافر فهو سبحانه قد حدد ما في وسعك.
قوله تعالى: {ولعلكم تهتدون}.. الهداية هي الطريق المستقيم الموصل إلي الغاية وهو أقصر الطرق، وغاية هذه الحياة هي أن تصل إلي نعيم الآخرة.. الله أعطاك في الدنيا الأسباب لتحكم حركة حياتك ولكن هذه ليست غاية الحياة.. بل الغاية أن نذهب إلي حياة بلا أسباب وهذه هي عظمة قدرة الله سبحانه وتعالى.. والله جل جلاله يأتي ليعلمنا في الآخرة أنه خلقنا لنعيش في الدنيا بالأسباب وفي الآخرة لنعيش في كنفه بلا أسباب.
إذن قوله تعالى: {ولعلكم تهتدون}.. أي لعلكم تنتبهون وتعرفون الغاية المطلوبة منكم.. ولا يظن أحدكم أن الحياة الدنيا هي النهاية أو هي الهدف.. فيعمل من أجل الدنيا فيأخذ منها ما يستطيع حلالا أو حراما باعتبارها المتعة الوحيدة المخلوقة له.. نقول لا، إنه في هذه الحالة يكون قد ضل ولم يهتد لأنه لو اهتدى لعرف أن الحياة الحقيقية للإنسان هي في الآخرة. ولعرف أن نعيم الآخرة الذي لا تفوته ولا يفوتك.. يجب أن يكون هدفنا في الحياة الدنيا فنعمل ما نستطيع لنصل إلي النعيم بلا أسباب في الجنة. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}.
أخرج ابن جرير من طريق السدي عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا: لما صرف النبي صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة بعد صلاته إلى بيت المقدس قال المشركون من أهل مكة: تحير محمد دينه فتوجه بقبلته إليكم، وعلم أنكم اهدى منه سبيلًا، ويوشك أن يدخل في دينكم. فأنزل الله: {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: {لئلا يكون للناس عليكم حجة} قال: يعني بذلك أهل الكتاب، قالوا حين صرف نبي الله إلى الكعبة البيت الحرام: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: {لئلا يكون للناس عليكم حجة} قال: حجتهم قولهم: قد راجعت قبلتنا.
وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن قتادة ومجاهد في قوله: {إلا الذين ظلموا منهم} قال: هم مشركو العرب، قالوا حين صرفت القبلة إلى الكعبة: قد رجع إلى قبلتكم فيوشك أن يرجع إلى دينكم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: {إلا الذين ظلموا منهم} قال: الذين ظلموا منهم مشركو قريش، إنهم سيحتجون بذلك عليكم، واحتجوا على نبي الله بانصرافه إلى البيت الحرام، وقالوا: سيرجع محمد إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا، فأنزل الله في ذلك كله {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} [البقرة: 153].
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {لئلا يكون للناس عليكم حجة} قال: يعني بذلك أهل الكتاب {إلا الذين ظلموا منهم} بمعنى مشركي قريش. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}.
{مِنْ حَيْثُ} متعلق بقوله: {فولّ وَجْهَكَ} و{خرجت} في محلّ جر بإضافة {حيث} إليها، وقرأ عبد الله بالفتح، وقد تقدم أنها إحدى اللغات، ولا تكون هنا شرطية، لعدم زيادة ما، والهاء في قوله: {وَإِنَّهُ للحَقُّ} الكلام فيها كالكلام عليها فيما تقدّم.
قوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ} هذه لام كي بعدها أن المصدرية الناصبة للمضارع، ولا نافية واقعة بين الناصب ومنصوبه، كما تقع بين الجازم ومجزومه نحو: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ} [الأنفال: 73] وأن هنا واجبة الإظهار، إذ لو أضمرت لثقل اللَّفظ بتوالي لامين، ولام الجر متعلقة بقوله سبحانه وتعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ}.
وقال أبو البقاء: متعلّقة بمحذوف تقديره: فعلنا ذلك لئلا، ولا حاجة إلى ذلك، و{للناس} خبر ل {يكون} مقدّم على اسمها، وهو {حجّة}، و{عليكم} في محل نصب على الحال؛ لأنه في الأصل صفة النكرة، فلما تقدم عليها انتصب حالًا، ولا يتعلق ب {حجة} لئلاّ يلزم تقديم معمول المصدر عليه، وهو ممتنع؛ لأنه في تأويل صلة وموصول، وقد قال بعضهم: يتعلّق ب {حجة} وهو ضعيف، ويجوز أن يكون {عليكم} خبرًا ل {يكون} ويتعلق {للناس} ب {يكون} على رأي من يرى أن كان الناقصة تعمل في الظرف وشبهه، وذكر الفعل في قوله: يكون؛ لأن تأنيث الحجّة غير حقيقي، وحسن ذلك الفصل أيضًا.
وقال أبو روق: المراد بالنَّاس: أهل الكتاب.
ونقل عن قتادة والربيع: أنهم وجدوا في كتابهم أنه- عليه الصلاة والسلام- تحوّل إلى القبلة، فلما حوّلت بطلت حجّتهم.
{إلا الذين ظلموا}؛ بسبب أنهم كتموا ما عرفوا.
وقيل: لام أوردوا تلك الشبهة معتقدين أنها حجّة سماها تعالى حجّة، بناءً على معتقدهم، أو لعله- تعالى- سمّاها حجّة تهكُّمًا بهم.
وقيل: أراد بالحجة المحاجّة، فقال: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} فإنهم يحاجونكم بالباطل.
قوله تعالى: {إلاَّ الَّذِينَ} قرأ الجمهور {إلاَّ} بكسر الهمزة وتشديد اللام.
وقرأ ابن عباس، وزيد بن علي، وابن زيد بفتحها، وتخفيف اللام على أنها للاستفتاح.
فأما قراءة الجمهور فاختلف النحويون في تأويلها على أربعة أقوال:
أظهرها: وهو اختيار الطبري، وبدأ به ابن عطية، ولم يذكر الزمخشري غيره أنه استثناء متصل.
قال الزمخشري: معناه لئلا يكون حجّة لأحد من اليهود إلا للمعاندين منهم القائلين: ما ترك قِبْلَتنا إلى الكعبة إلا ميلًا لدين قومه، وحبًّا لهم، وأطلق على قولهم: {حجّة}؛ لأنهم ساقوه مساق الحجة.
والحجّة كما أنها تكون صحيحة، فقد تكون أيضًا باطلة، قال الله تعالى: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} [الشوى: 16].
وقال تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العلم} [آل عمران: 61] والمحاجّة هي أن يورد كل واحد من المحق والمبطل على صاحبه حجّة، وهذا يقتضي أن الذي يورده المبطل يسمى بالحجّة، ولأن الحجّة اشتقاقها من حَجَّه إذا علا عليه، فكل كلام يقصد به غلبة الغير فهو حجّة.
وقال بعضهم: إنها مأخوذة من محجّة الطريق، فكل كلام يتّخذه الإنسان مسلكًا لنفسه في إثبات أو إبطال فهو حجّة.
وقال ابن عطية: المعنى أنه لا حجّة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا من اليهود وغيرهم الذين تكلموا في النازلة، وسماها حجّة وحكم بفسادها حين كانت من ظالم.
الثاني: أنه استثناء منقطع، فيقدر ب {لكن} عند البصريين، وب بل عند الكوفيين؛ لأنه استثناء من غير الأول، والتقدير: لكن الذين ظلموا، فإنهم يتعلقون عليكم بالشبهة يضعوناه موضع الحجة [نظيره قوله: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون إَلاَّ مَن ظَلَمَ} النمل: 10- 11].
وقال: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ} [هود: 43].
ويقال: ما له عليّ مِنْ حقَ إلاّ التعدي، أي: لكنه يتعدى.
ومثار الخلاف هو: هل الحجّة هي الدليل الصحيح، أن الاحتجاج صحيحًا كان أو فاسدًا؟
فعلى الأولى يكون منقطعًا، وعلى الثاني يكون متصلًا.
الثالث: وهو قول أبي عبيدة أن {إلا} بمعنى الواو العاطفة وجعل من ذلك قوله: الوافر:
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخْوهُ ** لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدانِ

يَعْني: والفرقدان.
وقول الآخر: البسيط:
مَا بِالمَدِينَةِ دَارٌ غَيرُ وَاحِدَةٍ ** دَارُ الخَلِيفَةِ إِلاَّ دَارُ مَرْوَانَا

تقدير ذلك عنده: ولا الذين ظلموا، والفرقدان، ودار مروان وقد خطأه النحاة في ذلك كالزجاج وغيره.
الرابع: أن {إلا} بمعنى بعد، أي: بعد الذين ظلموا، وجعل منه قول الله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56].
وقوله تعالى: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] تقديره: بعد الموتة، وبعد ما قد سلف، هذا من أَفْسَد الأقوال، وأنكرها، وإنما ذكرته لغرض التنبيه على ضعفه.
و{الذين} في محل نصب على الاستثناء على القولين اتّصالًا وانقطاعًا، وأجاز قطرب أن يكون في موضع جَرّ بدلًا من ضمير الخطاب في {عليكم}، والتقدير: لئلا تثبت حجّة للناس على غير الظالمين منهم، وهم أنتم أيها المخاطبون بتولية وجوهكم إلى القِبْلة.
ونقل عنه أنه كان يقرأ: {إلاَّ على الذين} كأنه يكرر العامل في البدل على حَدْ قوله: {لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75].
وهذا عند جمهور البصريين ممتنع؛ لأنه يؤدي إلى بدل ظاهر من ضمير حاضر بدل كلّ من كل، ولم يجزه من البصريين إلا الأخفش، وتأول غيره ما ورد من ذلك.
وأما قراءة ابن عباس ب {ألا} للاستفتاح، ففي محل {الذين} حينئذ ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنه مبتدأ، وخبره قوله: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ}، وإنما دخلت الفاء في الخبر؛ لأن الموصول تضمن معنى الشرط، والماضي الواقع صلة مستقبل معنى كأنه قيل: من يظلم الناس فلا تخشوهمن ولولا دخول الفاء لترجّح النصب على الاشتغال، أي: لا تخشوا الذين ظلموا لا تخشوهم.
الثاني: أن يكون منصوبًا بإضمار فعل على الاشتغال، وذلك على قول الأخفش، فإنه يجيز زيادة الفاء.
الثالث: نقله ابن عطية أن يكون منصوبًا على الإغراء.
ونقل عن ابن مجاهد أنه قرأ: {إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا} وجعل {إلى} حرف جر متأولًا لذلك بأنها بمعنى مع، والتقدير: لئلا يكون للناس عليكم حجة مع الذين، والظاهر أن هذا الراوي وقع في سمعه {إلا الذين} بتخفيف {إلاَ} فاعتقد ذلك فيها، وله نظائر مذكورة عندهم.
و{منهم} في محل نصب على الحال فيتعلّق بمحذوف، ويحتمل أن تكون {من} للتبعيض، وأن تكون للبيان. اهـ.
والخَشْية: أصلها: طمأنينة في القلب تبعث على التوقي والخوف والخوف: فزع في القلب تخف له الأعضاء، ولخفّة الأعضاء به يسمى خوفًا، ومعه التحقير لك من سوى الله تعالى، والأمر باطّراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى.
قال بعضهم: الخوف أوّل المراتب، وهو الفزع، ثم بعده الوَجَل، ثم الخَشْية، ثم الرَّهْبة.
قوله: {وَلأُتِمَّ} فيه أربعة أوجه:
أظهرها: أنه معطوف على قوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ} كأن المعنى: عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم، والحجة لكم لانتفاء حجج الناس عليكم، ولإتمام النعمة، فيكون التعريف معلّلًا بهاتين العلّتين:
إحداهما: لانقطاع حجّتهم عنه.
والثانية: لإتمام النعمة.
وقد بَيَّن مسلم الأصفهاني ما في ذلك من النعمة، وهو القوم كانوا يفتخرون باتباع إبراهيم في جميع ما يفعلون، فلما حُوِّل- عليه الصلاة والسلام- إلى بيت المقدس لحقهم ضعف قلب، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يحب التحوّل إلى الكعبة، لما فيها من شرف البُقْعة، فهذا موضع النعمة، والفصل بالاستثناء وما بعده كَلاَ فَصْلٍ إذ هو من متعلق العلة الأولى.
الثاني: أنه معطوف على علّة محذوفة، وكلاهما معلولها الخشية السابقة فكأنه قيل: واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم.
الثالث: أنه متعلّق بفعل محذوف مقدر بعده تقديره: وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ عرفتكم أمر قبلتكم.
الرابع: وهو أضعفها أن تكون متعلقة بالفعل قبلها، والواو زائدة، تقديره: واخشوني لأتم نعمتي.
وهذه لام كي وأن مضمرة بعدها ناصبة للمضارع، فينسبك منهما مصر مجرور باللام وتقدم تحقيقه، و{عليكم} فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بأتمّ.
الثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من {نعمتي}، أي: كائنة عليكم. اهـ. باختصار.